عن ابن عبَّاس ـ رضي ﷲ عنهما ـ قال : كنت خلف النَّبي ـ صلَّىٰ ﷲ عليه وسلَّم ـ يوماً ، فقال :
« يا غلام ؛ إنِّي أُعلِّمك كلمات : احفظ ﷲ يحفظك ؛ احفظ ﷲ تجده تجاهك ، وإذا سألت فاسأل ﷲ ، وإذا استعنت فاستعن باللَّه ، واعلم أنَّ الأمَّة لو اجتمعت علىٰ أن ينفعوك بشيء ، لم ينفعوك إلَّا بشيء قد كتبه ﷲ لك ؛ وإن اجتمعوا علىٰ أن يضرُّوك بشيء ؛ لم يضرُّوك إلَّا بشيء قد كتبه ﷲ عليك ؛ رُفِعت الأقلام ، وجفَّت الصُّحف » ⑴.
الأحكام والآداب المتعلِّقة بالحديث :
١ـ دلَّ الحديث علىٰ مشروعيَّة تعليم الصِّبيان .
٢ـ في الحديث إرشاد لمعلِّمي الصِّبيان بانتهاز الأوقات المناسبة ؛ واختيار الأساليب الحسنة في تعليمهم .
ووجه ذلك : أنَّ النَّبي ﷺ استغلَّ لتعليم ابن عبَّاس ـ رضي ﷲ عنهما ـ وكان صغيراً تلك المسائل العظيمة حالة إردافه معه علىٰ الدَّابة وهما يسيران في الطَّريق ؛ وهي حالة يغلب فيها السّرور علىٰ الصِّبيان ، وانشراح صدورهم ؛ وقبولهم لِما يُلقىٰ إليهم .
٣ـ في الحديث إرشاد الصِّبيان وحثِّهم علىٰ حفظ ما ينفعهم من العلم وهم صغار .
ــ كما في رواية الطبراني : « يا غلام ؛ إنِّي مُعلُّمك كلمات فاحفظهنَّ » .
ــ قال الحسن البصري ، وقتادة ، ونافع : العلم في الصِّغر كالنقش علىٰ الحجر ⑵.
٤ـ في الحديث : استخدام الرَّأفة والرَّحمة ؛ والرّفق بالصِّبيان عند تعليمهم العلم ، وتلقِّيهم الدَّرس .
ــ فرسول ﷲ ﷺ بدأ بتلقين ابن عبَّاس ـ رضي ﷲ عنهما ـ بقوله : « يا غلام ؛ ألا أعلِّمك شيئاً ينفعك ﷲ به ؟ » ⑶.
ولا يخفىٰ ما في هذا الأسلوب من تحبيب وترغيب الصَّبي في العلم وحبّ طلبه وأهله .
٥ـ ابتدأ السَّلف الصَّالح بتعليم الصِّبيان التَّوحيد والسُّنَّة في صغرهم ؛ لأنَّ الصَّبي يكون علىٰ أوَّل ما ينشأ عليه في صباه غالباً .
فإن تربَّىٰ ونشأ علىٰ العقيدة الصَّحيحة وحبّ السُّنَّة ؛ صار عليها حتَّىٰ يموت بإذن ﷲ تعالىٰ ؛ وإن تربَّىٰ علىٰ البدعة ومخالفة السُّنَّة ونشأ عليها ؛ صار عليها ، ومات عليها إلا إذا أراد ﷲ له النَّجاة والخير .
٦ـ في الحديث : بيان ما كان عليه صبيان الصَّحابة ـ رضي ﷲ عنهم ـ من الأدب الرَّفيع ، وحسن مخاطبة الكبير .
ــ فابن عبَّاس ـ رضي ﷲ عنهما ـ أجاب النَّبي ﷺ لمَّا قال له : « يا غلام » بقوله : « لبَّيك » ؛ ثمَّ عرض عليه النَّبي ﷺ التعليم ؛ فأجابه ابن عبَّاس ـ رضي ﷲ عنهما ـ مبيِّناً رغبته وحرصه علىٰ العلم بقوله : « بلىٰ يا رسول ﷲ »
ــ وفي لفظ : عند ابن السَّريِّ : « بلىٰ فداك أبي وأمِّي » ⑷ ؛ ثمَّ أنصت لكلام النَّبي ﷺ ولم يُقاطعه .
٧ـ في الحديث دليل : علىٰ جواز إرداف الصَّبي علىٰ الدَّابة .
٨ـ يجب أن يُعلَّم الصِّبيان ما دلَّ عليه هذا الحديث من معانٍ ودلالات ؛ فإنَّه يتضمَّن وصايا عظيمة ؛ وقواعد كُلِّية من أهمِّ أمور الدِّين وأجلِّها .
وهي : تفرّد ﷲ ـ سبحانه وتعالىٰ ـ بالضرّ والنَّفع ، والعطاء والمنع ؛ وأنَّه لا يُصيب العبد من ذلك كلِّه إلا ما سبق تقديره وقضاه له ؛ وأنَّ الخلق كلّهم عاجزون عن إيصال نفعٍ ؛ أو ضرٍّ غير مقدَّر في الكتاب السَّابق .
وتحقيق هذا يقتضي انقطاع العبد عن التَّعلق بالخلق ؛ وعن سؤالهم واستعانتهم ؛ ورجائهم بجلب نفع أو دفع ضرٍّ ، وذلك يستلزم إفراد ﷲ سبحانه بالطَّاعة والعبادة أيضاً ؛ وأن تُقدَّم طاعته علىٰ طاعة الخلق كلّهم جميعاً ؛ وأن يتَّقي سخطه ولو كان في سخط الخلق جميعاً .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
⑴. رواه أحمد في مسنده ‹ ١/ ٢٩٣ › .
⑵. رواه ابن الجعد في مسنده .
⑶. المعجم الكبير ‹ ١١٥٦٠ › .
⑷. الزهد ‹ ٥٣٦ › .